في العام 1986 ، يوم كانت ” المنطقة الشرقيّة ” ترزح تحت نير ظلامة وظلم القوى التي لا تؤمن بمؤسّسات الدولة تحت " إمرة الأمر لي " ، وأصوات القذائف والرصاص والأنين تعلو أصوات المساكين ، أطلّ علينا الصوت الصارخ في البريّة ، صوت ملؤه الثورة المتواضعة ، الراهب الثائر على إجرام طواغيت الخوّات والمحاكم العرفيّة والمجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار ( عفواً فوق كلّ البحار ) ، أطلّ ألبير خريش علينا على مسرح السنة الأولى حقوق في الجامعة اللبنانية في جلّ الديب ، وكان اللقاء الأوّل ، وبه ومنه ابتدأت الحكاية …
راهب ، ممتلىء النعمة ، متواضع ، مثقّف ، يتقن الحريّات كما يتقن اللغات السبع ، أراد أن يزرعها في قلوبنا قبل عقولنا ، فكان لنا ما يشاء ، وكان له ما أراد ، فإذ بمادّة الحرّيات العامّة تصبح الخبز اليومي لنا يوم كانت الحرّية مسجونة في قفص الجهالة الميليشياويّة …
تعرّفت إليه في أوّل حصّة حقوقيّة يومها ، سُحرت بسهله الممتنع كما سحر رفاقي بخفّة ظلّه وبتواضعه الذي تنحني له الرؤوس ، فكان المحاضر المحبوب ، والصديق المرشد ، والكاهن الملهم والأب الحامي …
أصبحنا أصدقاء ، حتّى بعد السنة الثانية ، فكنّا في كلّ مرّة يحاضر فيها ، نذهب إليه ، لأنّ صوته ينادينا ، وسحر أفكاره يسرقنا من المتربّصين به ، حتّى ضاقوا به ذرعاً ، وأصبح كابوساً مرعباً جاثماً على صدورهم ، فحماية لخاطفي الحريّة لا بدّ من خطف جسده الذي كان يختزن الثورة على لا أخلاقهم ، وظلمهم واختطافهم للمبادىء الأساسيّة التي يحلم بها كلّ إنسان متمرّد على واقع حال الزعران …
وكمثل يهوذا الذي سلّم سيّده بثلاثين من الفضّة ، خطفوا الراهب من بيننا في العام 1988 ، وبثلاثين من خناجر الحقد والكره طعنوا جسده ، ومزّقوا صوته الذي كان يدقّ مضاجعهم ، ويزعج نومهم ، ويهدّد عروشهم المبنية على الدم ، ويفتح أبواب سجونهم التي كانت تفوح منها روائح القبور النتنة المتكلّسة …
ألبير خريش ، حرّياتك أصبحت دستور حياتنا ، وكلماتك حُفرت في قلوبنا ، وصوتك الصارخ في البريّة يدوّي في رؤوسهم الفارغة ، وجراحك لا بدّ أن تزهر حريّات لطالما تمنّيْت أن تكون شهيدها …