دولة العصابة : الضلع الخفي
- د.أحمد الشامي
الثلاثاء, 14 شباط 2012
بعدما كان جيشه قد "تبهدل " في محاولته الفاشلة لتحسين وضعه التفاوضي مع إسرائيل ، أدرك الأسد أن أمامه واحداً من خيارين لا ثالث لهما : إما أن يكرس جهده لبناء دولة مؤسسات مستقرة وقادرة على التفاوض مع إسرائيل من أجل الوصول إلى تعايش مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة مثلما سيفعل السادات فيما بعد ، أو أن يتوصل لتفاهمات مع الأقوياء في المنطقة ومن بينهم إسرائيل تسمح له بتبادل للخدمات سيكون في صالح الجميع باستثناء شعبه ، دون الاضطرار لإرساء مؤسسات قادرة على طمأنة الدولة العبرية.
الخيار الأول ما كان سيسمح للأسد بالتفرد تماماً بالحكم أو بالتوريث وكان سيفسح المجال يوما لنوع من الديمقراطية على المثال الجزائري أو المصري ، فدولة المؤسسات لا تستطيع أن ترهن مصيرها بمستقبل شخص واحد مهما كان هذا الفرد صاحب سطوة. ربما كان التحول إلى نظام ملكي هو الشكل الأنسب للأسد ، لكن خياراً كهذا ، في تلك الفترة ، ما كان ليمر لا لدى الشعب السوري ولا لدى راعي الأسد السوفييتي .
الأسد اختار كما نعرف جميعاً تجاوز دولة المؤسسات و بناء دولة الفرد في استراتيجية دءوبة بالتفاهم مع كيسنجر الذي أفهمه أن الدولة الأقدر على خلعه هي إسرائيل وأن هذه الأخيرة لديها مطالب لن تتنازل عنها مقابل أن يكون الأسد "مقاولاً " لحسابها على التراب السوري. أول هذه المطالب هي الهدوء على حدود الجولان والخرس في مسألة اللاجئين الفلسطينيين في الشام إضافة إلى نسيان موضوع نازحي الجولان لكي يكون احتلال الهضبة مجدياً لإسرائيل.
إسرائيل وكيسنجر استلهما معاهدة وقف إطلاق النار بين فرنسا بقيادة الماريشال "بيتان" وألمانيا النازية الموقعة في 22 حزيران 1940 . وفق هذه المعاهدة تم تقسيم فرنسا إلى جزأين واحد تحت الاحتلال الألماني المباشر وآخر "حر" لا وجود دائم للجيش النازي فيه ويقع تحت سلطة "بيتان" ونظام "فيشي".
صحيح أن الجيش الألماني لم يكن موجوداً خارج الجزء المحتل من فرنسا ، لكن النفوذ الألماني غير المباشر سيمتد إلى كامل التراب الفرنسي بل وسيقوم الألمان باحتلال الجزء الباقي من فرنسا عام 1942 حين شعر النازيون أنهم قد يخسرون الحرب. نظام "فيشي" سيبقى كما هو دون أي تغيير رغم الاجتياح الألماني لكل الأراضي الفرنسية ! وسيبقى الوضع على ما هو عليه حتى تحرير كامل فرنسا ورحيل النازيين.
الفرق بين ألمانيا النازية وإسرائيل أن الأولى كانت منخرطة في حرب عالمية تدور على عدة جبهات متحركة ومع أعداء أقوياء انتهوا إلى هزيمتها. اﻷسد من جهته تمتع بهامش مناورة واسع أتاحته له حقيقة أن ٳسرائيل لم تواجه حتى اليوم أي تهديد وجودي مما سمح لها "بالتساهل " نوعاً ما مع ممارسات الأسد مادام الأخير يؤدي المهمة الأساسية الموكلة له وهي "لجم " الشعب السوري لحساب سادة المنطقة الأجانب.
علام سيحصل الأسد مقابل كل هذه التنازلات الكبيرة والتي ترقى إلى استسلام كامل لإملاءات العدو الصهيوني ؟
وحدهم الموقعون على اتفاقية الفصل بين القوات يعرفون بالضبط مضمونها وملاحقها العلنية والسرية. اﻷمم المتحدة من جهتها أوكلت لها مهمة مراقبة فك الاشتباك و المرابطة على حدود الجولان وهي مهمة مملة تتجدد تلقائياً كل ستة أشهر منذ 1974!
بعد "المقلب" الساداتي وتوقف الحرب في سيناء وبعدما أدار اﻷسد المعارك على جبهة الجولان بالمهارة التي نعرفها، وجد اﻷسد نفسه في مأزق كارثي سيخرج منه رابحاً بفضل عرابه اﻷمريكي ولكن ليس دون ثمن، هو اتفاق الاستسلام التام للسيد الأمريكي والإسرائيلي مع حفظ حقوق الحليف السوفييتي.
اتفاق فصل القوات هذا يصح فيه قول الشاعر : " يا خوفي يوم النصر ترجع سينا ونخسر مصر...." . في أيار 1974 لم يعد الجولان لسوريا وعادت فقط القنيطرة المدمرة والشعب السوري خسر استقلاله لصالح مثلث جهنمي أضلاعه هي، بحسب نفوذها ومركزيتها بالنسبة لنظام الأسد : ٳسرائيل ثم أمريكا وأخيراً الاتحاد السوفييتي. سيبقى هذا المثلث وفي مركزه "حافظ اﻷسد " متحكما بمصير سوريا حتى قدوم اﻷسد الوريث الذي سيضيف له ضلعاً رابعاً هو ٳيران . اﻷسد الأب كان قد باشر في إدماج إيران في لعبة النفوذ والحماية لنظامه دون أن يسمح لها بلعب دور حاسم في تقرير سياساته. الأسد الابن سوف يغير قواعد اللعبة غير المكتوبة لصالح التقرب من إيران.
في ظل هذه الحماية المثلثة نجح اﻷسد في تركيب نظام معقد وتراتبي تغيب فيه كافة أشكال العمل المؤسساتي ويرتبط حصراً بشخص الرئيس. أهمية هذه الترتيبات هي أنها جعلت من شخص اﻷسد حجر الرحى للاستقرار في المنطقة فلا أحد غيره يقبل أو يقدر على تطبيق التزامات النظام. هكذا أصبحت حماية حياة اﻷسد واستقرار نظامه مهمة أساسية ليس فقط ﻷجهزة أمن الأسد ولكن أيضاً التزاما حياتياً ﻷجهزة مخابرات ٳسرائيل وأمريكا وحتى السوفييت ! هذا قد يفسر العمر المديد للأسد وعدم وقوع أي محاولة جدية لاغتياله في حين "غاب " عبد الناصر وتم اغتيال الملك فيصل والسادات في ظروف مناسبة للقوى الكبرى.
هذا قد يفسر أيضاً صعوبة انتقال السلطة التي أسسها اﻷسد ٳلى غيره لكون كافة التزامات النظام ترتدي طابعاً شخصياً وترتبط حصراً باﻷسد في غياب كامل للمؤسسات وللٳدارات القادرة على تسيير شؤون البلاد والعباد.
لم يكن ٳذا من مصلحة اﻷسد لا ٳقامة دولة مؤسسات قادرة على الاستغناء عن شخصه ولا التورط في عملية سلام قد تزعزع أسس حكمه. لا بل أن اﻷسد قد تنفس الصعداء مع اغتيال "اسحق رابين" الذي كان نجاحه في انتخابات الكنيست قادراً على تهديد استقرار وأبدية نظام اﻷسد وإعادة النظر في اتفاق الفصل الذي انتهى إلى جعل النزاع السوري – الإسرائيلي أبدياً ورسّخ حالة اللا حرب واللا سلم.
في الخلاصة ، يستحيل فهم آليات وتطور نظام الأسد وسلوكياته المقبلة دون وضع اتفاق فصل القوات في المكان الذي يستحقه وهو كونه بمثابة "العقد " المؤسس لنظام الأسد.
ٳسرائيل حازت في هذه الاتفاقية على ما يعادل صك ملكية للجولان منحه ٳياها حافظ و سيبقى يحترمها ما دام هو أو نسله مستمرين في حكم سوريا. اﻷسد الذي يدرك تماماً موازين القوى سوف يحترم هذا الاتفاق ولن يعرضه ﻷي اهتزاز. في المقابل، سوف يستحيل الوصول إلى أي اتفاق سلام نهائي مع إسرائيل في ظل حكم الأسد لأن وجود نظام الأسد مرهون باستمرار النزاع الشكلي.
أمريكا وجدت رجل المهمات الصعبة والذي ستضع العديد من الآمال على استمراريته في حكم بلد ثوري ومتمرد هو سوريا. أمريكا ستكتشف فيما بعد الطبيعة "الزئبقية " للأسد ونظامه والكلفة المرتفعة للتعامل مع هذا النظام المارق والمافيوي حين ستجتاح قواتها العراق و ستصطدم بوعود اﻷسد الوريث الكاذبة و بمراوغاته.
الاتحاد السوفييتي حصل من جهته على زبون ممتاز يشتري أسلحته التي لا تصلح سوى لقمع الشعوب ويعمل كواجهة وكوسيط للمنظومة الاشتراكية.
اﻷسد فاز بالاعتراف الإسرائيلي و الدولي بمركزية دوره و بترخيص يسمح له أن يفعل ما يشاء في سوريا وبشعبها مع غطاء ودعم لم يتوفرا ﻷي رئيس سوري قبله.
سوف تبقى هذه المعادلة تتحكم بكافة مآلات النظام وستتعرض لبعض التغيير مع الغزو اﻷمريكي للعراق حيث سيزداد الدوران اﻹيراني والإسرائيلي على حساب اﻷمريكي.
هكذا تحكم اﻷسد بمستقبل البلد معتمدا دوماً على واحد أو اثنين من اﻷضلاع الثلاثة وأحياناً عليها جميعاً (كما حدث حين واجه اﻷسد اﻷخوان في حماة). مثلاً، سيعتمد اﻷسد على الضلعين اﻹسرائيلي واﻷمريكي في دخوله ٳلى لبنان ثم على الضلعين السوفييتي واﻷمريكي في البقاء هناك ! حين واجه اﻷسد اتفاقية السلام اللبناني اﻹسرائيلي التي كان عرابها وزير الخارجية اﻷمريكي "جورج شولتز" في أيار 1983، استند اﻷسد ٳلى عدم رغبة قطاع واسع من المؤسسة العسكرية في ٳسرائيل في التوصل ٳلى سلام مع جيرانهم العرب وٳلى الضلع السوفييتي الذي وجد نفسه خارج المعادلة اللبنانية بقوة اﻷمر الواقع ولصالح النفوذ اﻷمريكي. كانت النتيجة سقوط هذا الاتفاق.
اﻷسد سيحترم دوماً التزامه المطلق تجاه أمن ٳسرائيل و سيبتعد عن اللعب في مجال ٳمدادات النفط معتبراً بما حصل لآخر الزعماء العرب الكبار، الملك فيصل بن عبد العزيز الذي سيدفع حياته في آذار 1975 ثمناً لالتزامه بقضايا العرب الكبرى وﻷنه قطع ٳمدادات النفط عن أعداء العرب في حرب تشرين. استشهاد الملك فيصل سوف يدخل السياسة السعودية في غيبوبة عميقة وسيزيح آخر العقبات في وجه تفرد "زعران" العروبة من قومجيين و ثوريين بالساحة السياسية العربية.
خارج احترام أمن إسرائيل والابتعاد عن تهديد الأمن النفطي للغرب سيتمتع اﻷسد بهامش واسع من المناورة سيسمح له بٳعادة تشكيل البنية المجتمعية في سوريا وليس فقط نظامها السياسي و سيتيح له الانطلاق، فيما بعد، ٳلى المحيط العربي واﻹقليمي الواسع، مثله مثل صدام، السادات والقذافي وغيرهم.
المجتمع السوري، وليس فقط الدولة والنظام سوف ُيعاد تشكيلهما ليصبحا طوع بنان اﻷسد ورهينة لنزوات عصابته ، في ظل تواطؤ دولي وٳقليمي مطلق ، بدأ السوريون بالكاد في ٳدراك مدى عمقه ومدى فداحة الثمن الذي دفعته وتدفعه سوريا الشعب كي تتخلص من سرطان اﻷسد